عدنان بن عبد الله القطان

6 جمادى الآخرة 1444 هـ – 30 ديسمبر 2022 م

————————————————————————–

الحمد لله الذي خلَق الخلقَ بقدرته، ومنَّ على مَنْ شاء بالتوفيق لطاعته، الغنيِّ عن كل شيء، سبحانه وبحمده، لا تنفعُه طاعةُ مَنْ تقرَّب إليه بعبادته، ولا تضرُّه معصيةُ مَنْ عصاه؛ لكمال غناه وعظيم عزته، ونشهَدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ونشهَدُ أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، وخِيرته مِنْ خلقه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأزواجه وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيراً.

أما بعدُ فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عز وجل بدوام الطاعات، وهَجْر المحرَّمات، وأخلِصوا لربكم القصد والنية، فإنما الأعمال بالنيات، وبادِروا إلى ما يحبه مولاكم ويرضاه، فكلُّ امرئٍ موقوفٌ على ما اقترفه وجَنَاه؛ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)

معاشر المسلمين: إن الله تبارك وتعالى خلَق الخلقَ، وبعَث الرسلَ، وأنزَل الكتبَ؛ لعبادته وحدَه لا شريكَ له؛ قال جل وعلا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولا تقوم هذه العبادة إلا بالإخلاص، فلا يبتغي بها العبدُ إلا وجهَ الله تعالى، لا رياءَ فيها ولا سمعةَ، فالإخلاصُ هو حقيقةُ الدينِ، وأساسُ العبادةِ، وشرطُ قبولِها، وهو بمنـزلة الروح للجسد، فلا عبوديةَ لمن لا إخلاصَ له، وبه تُرفَع الدرجاتُ، وتُغفَر الزلاتُ، ويطمئنُّ القلبُ، ويرتاح البالُ، والإخلاصُ -يا عباد الله- عزيزٌ، يحتاج إلى مجاهَدة، وإلى دوام محاسَبة، والرياءُ أخفى من دبيبِ النَّمْلِ، على صخرة سوداءَ، في ليلةٍ ظَلْماءَ، وهو يُفسِد العبادةَ، ويُحبِط الأجرَ، والله جل جلاله وتقدست أسماؤه هو الغنيُّ الحميدُ، العزيزُ المجيدُ، لا يرضى أن يُشرَك معه غيرُه، فإن أبى العبدُ إلا الشركَ، ترَكَه اللهُ وشِرْكَه، وردَّ عليه عملَه، يقول رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: إِنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكُمُ الشِّركُ الأَصغَرُ، قَالُوا: وَمَا الشِّركُ الأَصغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا جَزَى النَّاسَ بِأَعمَالِهِم: اذهَبُوا إِلى الَّذِينَ كُنتُمْ تُرَاؤُونَ في الدُّنيَا، فَانظُرُوا هَل تَجِدُونَ عِندَهُم جَزَاءً)؛ قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

أيها المؤمنون: إن ممَّا يُعِين على تربية النفس على الإخلاص، ودَفْع أسباب الرياء، أن يجعل المؤمنُ لنفسه خبيئةً من عمل صالح، يرجو بها ما عند الله جل جلاله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنِ استطاع منكم أن يكون له خبءٌ مِنْ عملٍ صالحٍ فليفعَلْ)، والخَبْءُ: أَيْ: شيءٌ مَخْبُوء، أي: مُدَّخَر، وكلٌّ يستطيعُ ذلك؛ فالموفَّقُ مَن ادَّخرَ له عملاً صالحاً لا يطَّلع عليه أحد حتى أقرب الناس إليه، ويسمى كذلك بالخبيئة الصالحة، وهي أن يجعل العبد بينه وبين الله تعالى طاعة أو عبادة من غير الفريضة، أو عملاً صالحاً لا يطلع عليه أحد حتى أهله إلى أن يَلْقَى الله عز وجل.

وهي زينة العبد في خلوته، وزاده لآخرته، بها تُفرَج الكربات وتسمو الدرجات، وتكفّر السيئات، دافعها الإخلاص، ويزيّنها الصدق، ويلفّها الكتمان، يفعلها العبد بعيداً عن العيون والأنظار، في موقف إيمانيّ صافي لا يشوبه طلَب سمعة، ولا شهرة، ولا تعلّق بمدح وثناء ولا دافع رياء. وهي كنز من كنوز الحسنات، يوفّق الله لها بعض عباده الصالحين الذين أخلصت قلوبهم لله فلا يستطيعها المنافقون ولا المراؤون. رغَّب فيها الإسلام لتكون للمؤمن فرجاً عند الكربات، وطوقاً للنجاة من النيران، وغرساً طيباً في فسيح الجنان.

والخبيئةُ الصالحةُ: هي كلُّ طاعة في السر، لا يطَّلِع عليها إلا اللهُ، ركعاتٌ في ظلمة الليل تركَعُها، أو تلاواتٌ وختماتٌ للقرآن تَختِمُها، أو صدقةٌ تُخفيها، أو كُربةٌ تُفَرِّجُها، أو رعايةُ أرملةٍ وأيتامٍ، أو بِرُّ أبٍ وأمٍّ، أو استغفارٌ بالأسحار، أو دمعةٌ في خَلوة من خشيةِ القهارِ، أو إصلاحٌ في السرِّ بينَ الناسِ، أو صيامٌ لا يعلم به أحدٌ من الناس.

ومِنَ الخبايا الصالحة: التفكر في اختلاف الليل والنهار ، والنظر في خلق السموات والأرض، وتسبيح فاطرهما، والنية الصادقة، من الخبايا الصالحة، فمَنْ همَّ بحسنة فلم يَعمَلْها، كتَبَها اللهُ عندَه حسنةً كاملةً، ومَنْ سألَ اللهَ الشهادةَ بصدقٍ، بلَّغَه اللهُ منازلَ الشهداءِ، وإن مات على فراشه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ). فالخبيئةُ الصالحةُ دليلٌ على الصدق والإخلاص، وبها يتقرَّب العبدُ إلى ربه، ويدَّخِرها لنفسه، ويرجو بها أن يكون ممَّن يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ، حيث جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدداً من أعمال السِّرّ سبباً في أن يظلّ الله من عملها بظلِه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه؛ يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تعالى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُم: رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ؛ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) فالعفة عن دعوة للزنا في الخفاء، وإخفاء الصدقة، وذكر الله في الخفاء مع البكاء من خشيته؛ أسباب من أسباب إظلال الله في ظله في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنة، عندما تدنو الشمس من الناس على قدر ميل، ويعرق الناس عرقاً شديداً يُلجم بعضهم إلجاماً، هنا يتميز الأخفياء الأتقياء في تعبُّدهم ويظلهم الله بظلّه. أما عموم الخلق فهم في حرّ الشمس ولهيبها، ولو تأملنا الأعمال المذكورة بالحديث لوجدنا الصفة الجامعة لها الخفاء.

أيها الأخوة والأخوات في الله: وأخبرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله يحب مَن قام الليل بالخفاء. فقال: أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ ثَلَاثةٌ وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ، وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ، وَذَكَرَ منهم: (الَّذِي لَهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ، وَفِرَاشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ، فَيَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَذَرُ شَهْوَتَهُ، فَيَذْكُرُنِي وَيُنَاجِينِي -أي: الله- وَلَوْ شَاءَ لَرَقَدَ) وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي…)

فالخبيئة الصالحة، لا تَخرج إلا من قلب سليم، قد أحسَن الظنَّ بربِّه، ورَغِبَ فيما عندَه، فأخفى عملَه، وتجرَّد لخالقه، فأهلُ الخبيئةِ الصالحةِ، لهم نورٌ في الوجه، وقبولٌ ومحبةٌ عند الخَلْق؛ وذلك لَمَّا خَلَوْا بالله جل جلاله، أحبَّهم وألبسَهم من نوره، وجعَل لهم المحبة والقبول عند خلقه، قال عبد الله ابن المبارك رحمه الله: ما رأيتُ أحدًا ارتفع مثل مالك بن أنس، أَيْ: لِمَا له من المحبة والهيبة في قلوب الناس- ليس له كثيرُ صلاةٍ ولا صيامٍ، إلا أن تكون السريرةُ)، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ) قال عبد الرحمن ابن الجوزي رحمه الله: والله لقد رأيتُ مَنْ يُكثِر الصلاةَ والصومَ والصمتَ، ويتخشَّع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه، وقَدرُه في النفوس ليس بذاك، ورأيتُ مَنْ يلبَس فاخرَ الثياب، وليس له كبير نفل ولا تخشُّع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرتُ السببَ، فوجدتُه السريرةَ، فمَنْ أصلَح سريرتَه فاح عبيرُ فضلِه، وعَبِقَتِ القلوبُ بنشرِ طِيبِه، فاللهَ اللهَ في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاحٌ ظاهر).

أيها الأخوة والأخوات في الله: من ثمار عبادة الخلوة صلاحُ القلبِ واستقامتُه، وطهارتُه وتنقيتُه، وبُعدُه عن الشهوات والشبهات، وثباتُه عند المحن والفتن؛ يقول تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) ولذا كانت الخبيئة الصالحة، أشدَّ الأعمال على الشيطان، فالشيطانُ لا يزال بالعبد، حتى يَنقُل عملَه من السر إلى العلانية، ومن الإخلاص إلى الشرك والرياء، والعُجْب والشهرة.

عباد الله: وحُسن الخاتمة، من ثمار الخبيئة الصالحة، فالفواتحُ عنوانُ الخواتمِ، والمرءُ إذا كان على جادَّةٍ وهدًى، وعملٍ خالصٍ لله جل وعلا، فاللهُ لطيفٌ بعباده، وهو أعدلُ وأكرمُ وأرحمُ، مِن أن يَخذُلَ مَنْ كانت هذه حالُه، بل هو أهل للتوفيق والسداد، والثبات وحُسْن المآب، (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) وفي الصحيحين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ)، قال ابن رجب رحمه الله: قوله: (فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ)، إشارةٌ إلى أنَّ باطنَ الأمرِ يكونُ بخلافِ ذلك، -إلى أن قال -رحمه الله- فقد يعمل الرجلُ عملَ أهل النَّارِ، وفي باطنِه خصلةٌ خفيَّةٌ من خصالِ الخيرِ، فتَغلِب عليه تلكَ الخصلةُ في آخِر عُمُرِهِ، فتُوجِب له حُسنَ الخاتمةِ) انتهى كلامه رحمه الله.. ولقد كان سلفنا الصالح يستحبُّون أن يكون للرَّجل خبيئةٌ صالحةٌ، لا تعلم به زوجتُه ولا أولادُه، فضلًا عن غيرهم، قال الحسن البصري، في وصفه لِمَنْ أدرَكَهم من الصحابة والتابعين: (ولقد أدرَكْنا أقوامًا ما كان على الأرض مِنْ عمل يقدِرون أن يعملوه في السر، فيكون علانيةً أبداً)

عباد الله: هذه المنزلة العظيمة والمكانة العلية الرفيعة تحتاج لبلوغها لمن يرومها، الدعاء وتحري ساعات الإجابة، والاستمرار في الدعاء، والإلحاح فيه، لا تملّ ولا تكلّ، ومما ينبغي أن ندعو به هذا الدعاء قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ) ولذلك احفظ هذا الدعاء يا عبد الله وكرره كثيراً، واسأل الله بصدق أن يرزقك الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال..

 ومما يعين على التوفيق لعبادة الخفاء: تدبر معاني الإخلاص لله، وتذكير النفس به دائمًا، وهو الدافع الأول على عمل السرّ؛ ذلك إن الباعث على عمل السر هو أن يكون العمل لله وحده وأن يكون بعيدًا عن رؤية الناس.

فتصفَّحْ -يا عبدَ اللهِ- في سِجِلِّ حياتِكَ، هل تجد في صحيفة أعمالك خبيئة صالحة تدخرها ليوم القيامة، فهنيئاً للأخفياء محبة الله لهم.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأتقياء الأخفياء الأصفياء إنه سميع مجيب الدعاء.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله المنعم على عباده بعظيم آلائه، نحمده سبحانه على تعاقُبِ نعمائه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل رسله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: لقد حرص الصحابة الكرام والسلف الصالح رضوان الله عليهم على إخفاء أعمالهم وعباداتهم عن أعين الناس خوفاً من أن يفسدها الرياء تقرُّباً إلى الله عز وجل حتى قال بعضهم في وصفهم: (كانوا يستحبّون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجتُه ولا غيرها). فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبلال بن رباح رضي الله عنه: يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُوراً، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ) وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء فاحتبس فيها شيئاً يسيراً، ثم يعود إلى المدينة، فعجب عمر رضي الله عنه من أمره فلحقه واختبأ له خلف صخرة، فدخل الصدّيق خيمة ولبث فيها قليلاً، فلما خرج دخل عمر رضي الله عنه إليها فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء وعندها صبية صغار، فسألها عمر: من هذا الذي يأتيكم؟ فقالت: لا أعرفه، ولكنه رجل من المسلمين يأتينا كل صباح فيكنس بيتنا، ويعجن عجيننا، ويحلب شاتنا، فخرج عمر وهو يبكي ويقول: غفر الله لك، لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر!

أما زين العابدين عليُّ بن الحسين رحمه الله فقد كان يحمل أكياس الدقيق على ظهره بالليل ويوصلها إلى بيوت الأرامل والأيتام والفقراء، ولا يستعين بخادم ولا عبد لئلا يطّلع عليه أحد، فلما مات وغسّلوه وجدوا على ظهره آثاراً سوداء، فقالوا: هذا ظهر حمّال وما علمناه اشتغل حمّالاً! وانقطع الطعام بموته عن مئة بيت كان يأتيهم طعامهم بالليل من مجهول، فعلموا أنه هو الذي كان يحمله إليهم وينفق عليهم رضي الله عنه، وقالوا عن الحسن البصري رحمه الله: أنه إذا أمر بشيء كان من أعمل الناس به، وإذا نهى عن شيء كان من أترك الناس له، ولم ير أحد قط أشبه سريرة بعلانية منه) وصَامَ دَاوُدُ بن أبي هند رحمه الله سنوات عديدة لَا يَعْلَمُ بِهِ أَهْلُهُ، وَكَانَ خَرَّازًا يَحْمِلُ مَعَهُ غَدَاءَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِي الطَّرِيقِ وَيَرْجِعُ عَشِيًّا فَيُفْطِرُ مَعَهُم. وكان ابن المبارك رحمه الله يضع اللثام على وجهه في الجهاد؛ لئلا يُعرف. وكَانَ أَيُّوْبُ السختياني رحمه الله فِي مَجْلِسٍ فَجَاءتْهُ عَبْرَةٌ فَجَعَلَ يَمْتَخِطُ وَيَقُوْلُ: مَا أَشَدَّ الزُّكَام. يُظهِر أنه مزكوم لإخفاء البكاء. وحاصر الأمير مسلمة بن عبد الملك حصناً للروم فندب الناس إلى نقب منه (أي ثغر)، فما دخله أحد، فجاء رجل من عرض الجيش فدخله ففتحه الله عليهم، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت الحاجب بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلّا جاء. فجاء رجل فقال: للحاجب استأذن لي على الأمير، فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه. فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تسألوه مَنْ هو، وألا تأمروا له بشيء. قال: فذاك له، قال: أنا هو. فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب.

ولم يقتصر هذا الأمر على الرجال في إخفاء أعمالهم وعبادتهم، بل النساء كان لهن نصيب مثل الرجال سواء بسواء، وفي قمة هؤلاء أمهات المؤمنين وآل البيت ونساء الصحابة رضي الله عنهن أجمعين وأرضاهن.

فلله دَرّهم من رجال ونساء أتقياء أنقياء أخفياء، ربّاهم القرآن ورعاهم الرحمن، وقد بشّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله يحب العبد التقي النقي الخفيّ) لذا نرى أن سلفنا الصالح باعوا دنياهم الفانية من أجل الآخرة الباقية، فكانت أعمالهم حياة لقلوبهم ونوراً لقبورهم وربحاً لآخرتهم.

(اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه)

اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل وكلمة الحق في الغضب والرضا وخشيتك في الغيب والشهادة، اللهم إنا نسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك وارزقنا تقواك والإخلاص لك،‏ اللهم نور بالإخلاص قلوبنا واستعمل بطاعتك أبداننا وخلص من الفتن سرنا وقنا شر وساوس الشيطان، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها أمرنا وتزكي بها أعمالنا وتلهمنا بها رشدنا وترد بها الفتن والمحن عنا وتعصمنا بها من كل سوء ومكروه.

اللهم اجعل يقيننا أفضل اليقين واجعل نيتنا أحسن النيات اللهم ارزقنا الإخلاص والخشوع والهيبة، والحياء، والمراقبة، واليقين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم ومستشاريهم ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر. اللهم ارفع عنا البلاء والوباء وسيء الأسقام والأمراض، وعاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بمن نحن أهله، أنت أهل التقوى والمغفرة.. اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.. اللهم اشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا..

 الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

  

      خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين